لم أكن أتصور يوما أنني سأرفع قلمي لإبراز متانة العلاقات الجزائرية المصرية تاريخيا واستراتيجيا، وأنا الذي سبق لي أن عشت بأرض الكنانة طالبا وباحثا وكاتبا، ومؤلفا للعديد من الكتب لعل أهمها كتاب ''الدور المصري في جنوب شبه الجزيرة العربية والشرق الإفريقي''.. نعم لم أكن أتصور أن الحماقة الإعلامية والسفالة الفنية أخذت تزحف إلى أن وصلت إلى النخبة الفنية والفكرية والقانونية المصرية.
مع ذلك تشجعت وأنا أستمتع وأتذوق ما يكتب في يوميتنا الإعلامية الوطنية ''الخبر''، وعزمت على الكتابة على طريق تبيان الدور الجزائري في تاريخ مصر القديم والحديث دون مبالغة ومن غير تجريح، فأخلاق كتاب الجزائر أسمى وأرفع من أن تخدشها حماقات الغندور وأديب وترّهات شوبير وخزعبلات رجل المخابرات المدعو إبراهيم حجازي...
بعد أن استقر المقام بالمعز لدين الله الفاطمي ببلاد المغرب وثبّت أركان الدولة الفاطمية، لم يغب عن باله احتواء المشرق. وكان يشرح هذه السياسة بوضوح لرجاله وعصبيته من قبيلة كتامة الجزائرية المنحدرة من منطقة بني عزيز وما جاورها بولاية سطيف كلما وجد إلى ذلك سبيلا أو فرصة، قائلا: ''واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به رجوت أن يقرب الله علينا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب بكم''.
إن جهود المعز وأحاديثه الخاصة وإطراؤه لأخلاق كتامة وتركيزه على العلاقات التاريخية بينهم وبين أسلافهم قد أثمرت في نهاية الأمر وبدأت طلائع قوة جديدة تريد أن تكون لها السيادة العليا على مستوى العالم الإسلامي مغربه ومشرقه.
وعنوان هذا المد الجديد الذي أزهر به الأمل ونضجت به ثمار الدعوة والسياسة وحركة التوسيع في مصر باب المشرق، هو أبو الفضل جعفر بن فلاح مساعد جوهر الصقلي في قيادة أضخم حملة ضد مصر.
جعفر بن فلاح الجزائري اسما ونسبا
تشير أغلب المصادر التاريخية إلى هذا القائد باسم جعفر بن فلاح الكتامي من قبيلة كتامة الجزائرية، ويضيف بعضها إليه كنية أبي الفضل إشارة إلى ابنه الفضل الذي توفي في القاهرة المعزية، وحضر جنازته كبار رجال الدولة بمن فيهم جوهر الصقلي قائد حملة فتح مصر ومفوض الخليفة المعز لدين الله في شؤون الحكم. وتشير بعض النصوص إلى جد القائد جعفر وهو أبو مرزوق فيكون اسمه أبو الفضل جعفر بن فلاح بن أبي مرزوق الكتامي الجزائري.
القائد الكتامي وفتح مصر
هذا، وقد كان جعفر بن فلاح بين قادات الدولة في دورها المغربي وظهر بجانب جوهر الصقلي لقيادة أضخم حملة عسكرية مصيرية.
كان الخليفة المعز لدين الله الفاطمي يعلم أن ظروف مصر سيئة بعد وفاة كافور الأخشيدي وأنها غنيمة سهلة، ومع ذلك بذل جهدا كبيرا في الاستعداد والحشد. فقد كلف جوهر أثناء تجواله في بلاد المغرب 958 - 959 للميلاد بأن يحشد أكفأ الفرسان، كما أمر عماله في مدينة قابس وطرابلس وبرقة بأن يتعاونوا كلهم في إطار إقليمه من أجل حفر الينابيع والآبار وبناء استراحة في كل منزل ينزل به الجيش.. أما مجموع الرجال من كتامة الجزائرية فقد بلغ حوالي 100 ألف، هذا غير النجدات التي وردت بعد ذلك مع الحسن بن عمار الكلبي ومع سعادة بن حيان.
اهتم المعز لدين الله بالجند فحباهم بالهدايا والتقى بهم أكثـر من مرة، كما أضفى أهمية خاصة على قائد الحملة جوهر الصقلي وقال: ''والله لو خرج هذا وحده لفتح مصر وليدخلن بالإرادة من غير حرب، ولينزلن في خربات ابن طولون ويبني مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا''.
وكان مساعد جوهر هو القائد جعفر بن فلاح الجزائري الذي اصطحب معه أبناءه الأربعة مع حشود كبيرة من كتامة.
وبسبب هذه الاستعدادات لم تصادف الحملة على مصر أية صعوبة في نفاذها من برقة إلى الاسكندرية.. وكان صدى وصول الحملة إلى الاسكندرية واقتحامها سلما حسنا بين الجماهير في الفسطاط.
لكن زعماء الكافورية والأخشيدية لم يعجبهم ما يحدث ولهذا بدأوا يهيئون للمقاومة ولمنع جنود الحملة من عبور النيل إلى الفسطاط..
هنا بدأ جوهر الصقلي في مركزه الحصين في شرق القناطر الخيرية بمصر في تهيئة جو الحرب ضد هؤلاء العصاة فتحفظ على المراكب التي وصلت من دمياط وضيق عليهم الحصار، ثم أمر نائبه في قيادة الحملة القائد جعفر بن فلاح بأن يختار جماعة ويعبر بهم إلى الجانب الآخر من النيل لدحر المعارضين للسلام العام مع المجتمع المصري في إطار التبعية للفاطميين.
فما كان من جعفر إلا أن اقتحم النيل سباحة مع رجاله واشتبكوا مع قوات المعارضة فبددوا شملها وتمكنوا من قتل بعض زعمائها مثل الآرغلي ومشير الأخشيدي... أما الآخرون فانسحبوا وتفرقوا في الأنحاء ومنهم من فر إلى الشام وتركوا المصريين يلقون مصيرهم على يد رجال جعفر بن فلاح الجزائري، وهكذا انتهت المقاومة في مصر ودخل جوهر الصقلي الفسطاط يوم السبت 17 شعبان 358 هجرية/ 968 - 969 ميلادية.
كتامة وبناء القاهرة والجامع الأزهر
اعتمد جوهر الصقلي على قبيلة كتامة الجزائرية وعلى قائدها جعفر بن فلاح في القيام بالإجراءات التي تعبر عن وضع مصر الجديد كولاية فاطمية، ومن ذلك:
1 - إعلان الخطبة للمعز لدين الله الفاطمي بدلا من المطيع العباسي، وقد تم ذلك بداية من 20 شعبان 358 هجرية في الجامع العتيق وفي جامع ابن طولون.
2 - تنشيط المصالح الاقتصادية وإعادة فتح دار السكة في الفسطاط.
3 - بدأ العمل على إنشاء مدينة القاهرة والجامع الأزهر.
والنتيجة الهامة التي ترتبت عن حادث الانتقال من بلاد المغرب إلى مصر وبناء القاهرة هي الانقلاب في وضع مصر الدستوري والسياسي، حيث صارت ولأول مرة دار خلافة عالمية بفضل الجزائريين، ومقر الإمامة علوية إسماعيلية، هدفها اتخاذ مصر معبرا إلى الشام والحجاز والعراق.
آثار كتامة الجزائرية في قاهرة المعز
إن قبيلة كتامة بقيت لها آثار خالدة في القاهرة المعزية تذكر بعصر مجدها وقوتها وسيادتا ودور الجزائريين فيها، وأهم هذه الآثار:
- حارة كتامة: وهي عبارة عن المنطقة التي اتخذتها فروع كتامة سكنا ومقاما سواء منهم الذين قدموا مع جوهر الصقلي واشتركوا في تأسيس الحارة، أو الذين قدموا فيما بعد مع المعز لدين الله الفاطمي. وكانت منطقة واسعة بعضها داخل مدينة القاهرة وبعضها الآخر في ظاهرها خارج باب الخلق.
- خط قصر ابن عمار: وكان جزء من حارة كتامة ومنه ينفذ المارة إلى درب المنصورية على رأس الحارة الصالحية ويأتون إليه من ناحية مدرسة ابن غنام.
- خندق العبيد: ويعتبر من أقدم آثار كتامة خارج مدينة القاهرة يجاور الحسينية، وقد سكنه المغاربة، ويرجح البعض أنه الآن في ما يسمى حي الدمرداش.
- مسجد توبة بن ميسرة الكتامي في القرافة الكبرى.
-حارة الحمزيين وهي حارة باب زويلة، وأصلهم من قرية حمزة بمدينة البويرة (حوالي 120 كلم شرق الجزائر العاصمة).
-الجامع الأزهر (الذي سنفرد له دراسة خاصة وعلماء الجزائر الذين درسوابه ومواقفهم الخالدة).
وكان دور كتامة بارزا في وضع أسس قصر المعز لدين الله وفي بناء القنطرة التي أقامها جوهر فوق الخليج ليعبر منها الجند لحرب القرامطة.
فقط ليس هنا المجال للاستفاضة أكثـر حول الدور الجزائري في تاريخ مصر القديم والحديث، ولكن كخلاصة عامة فإن متانة العلاقة بين الشعبين الجزائري والمصري أكبر من أن تهزها رياح سوء إدارة الأزمات والبرمجة والغثيان السياسي المتعفن الذي يريد لن يتسلق المجد على ظهر الحرية والثورة والشهامة. فالجزائر كبيرة وعظيمة عظامة هذا الشعب بمفكريه وساسته وصحافييه ودبلومسيته الهادئة الرزينة.
المصدر :بقلم المؤرخ: حرفوش مدني